كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ومن ذا الذي كان يمكن أن يتصور إمكان وقوع هذه الخارقة العجيبة لولا أنها وقعت فعلاً وتكرر وقوعها؟
إنها يد الله التي سوت هذا الإنسان؛ وإنها النفخة من روح الله في هذا الكيان.
إنها التفسير الوحيد الممكن لهذه العجيبة التي تتكرر في كل لحظة، والناس عنها غافلون.. ثم هي النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الكائن العضوي إنساناً ذا سمع وذا بصر وذا إدراك إنساني مميز من سائر الكائنات العضوية الحيوانية: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}.. وكل تعليل آخر عاجز عن تفسير تلك العجيبة التي تواجه العقل البشري بالحيرة الغامرة التي لا مخرج منها بغير ذلك التفسير.
ومع كل هذا الفيض من الفضل. الفضل الذي يجعل من الماء المهين ذلك الإنسان الكريم. الفضل الذي أودع تلك الخلية الصغيرة الضعيفة كل هذا الرصيد من القدرة على التكاثر والنماء، والتطور والتحول، والتجمع والتخصيص. ثم أودعها كل تلك الخصائص والاستعدادات والوظائف العليا التي تجعل من الإنسان إنساناً.. مع كل هذا الفيض فإن الناس لا يشكرون إلا في القليل: {قليلاً ما تشكرون}..
وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان، وأطوار هذه النشأة العجيبة، الخارقة لكل مألوف، وإن كانت تتكرر في كل لحظة، وتقع أمام الأنظار والأسماع. في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة، وشكهم في البعث والنشور. فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة:
{وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون}..
إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقاً جديداً، بعد موتهم ودفنهم، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض، ويختلط بذراتها، ويضل فيها، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى، وليس فيها غريب ولا جديد! {بل هم بلقاء ربهم كافرون}.. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة.
لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم ورجعتهم، مكتفياً بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة:
{قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون}.
هكذا في صورة الخبر اليقين.. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.
وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها، يقفهم وجهاً لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة؛ مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود:
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}..
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى.. وهم ناكسو رؤوسهم خجلاً وخزياً.. {عند ربهم}.. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا.. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.
وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله؛ وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم:
{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}..
ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقاً واحداً. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب؛ أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال؛ ويختار الهداية أو يحيد عنها؛ ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.
وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم. هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول. ومن ثم يقال لهم:
{فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا}..
يومكم هذا الحاضر. فنحن في المشهد في اليوم الآخر.. ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت. ذوقوا {إنا نسيناكم}.. والله لا ينسى أحداً. ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء.
{وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}..
ويسدل الستار على المشهد. وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه. وترك المجرمون لمصيرهم المهين. ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك، وكأنهم شاخصون حيث تركهم! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب.
يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر، في ظل آخر، وفي جو آخر، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب. إنه مشهد المؤمنين. مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله. وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال:
{إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}..
وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير.
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم {خروا سجداً} تأثراً بما ذكروا به، وتعظيماً لله الذي ذكروا بآياته، وشعوراً بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيراً عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب {وسبحوا بحمد ربهم}. مع حركة الجسد بالسجود. {وهم لا يستكبرون}.. فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال.
ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة. في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب:
{تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}..
إنهم يقومون لصلاة الليل. صلاة العشاء الآخرة. الوتر. ويتهجدون بالصلاة، ودعاء الله. ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}.. فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام. ولكن هذه الجنوب لا تستجيب. وإن كانت تبذل جهداً في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة. لأن لها شغلاً عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ. شغلا بربها. شغلا بالوقوف في حضرته. وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته. والخوف من غضبه والطمع في رضاه. والخوف من معصيته والطمع في توفيقه. والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة، حتى لكأنها مجسمة ملموسة: {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً}.. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة، والصلاة الخاشعة، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة.. {ومما رزقناهم ينفقون}..
هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيفة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد. الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس:
{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}..
تعبير عجيب يشي بحفاوة الله سبحانه بالقوم؛ وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون.
هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه. والذي يظل عنده خاصة مستوراً حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه! عند لقياه! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله.
يا لله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله! ومن هم كائناً ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء، في عناية ورعاية وود واحتفال؟ لولا أنه فضل الله الكريم المنان؟!
وأمام مشهد المجرمين البائس الذليل؛ ومشهد المؤمنين الناعم الكريم، يعقب بتلخيص مبدأ الجزاء العادل، الذي يفرق بين المسيئين والمحسنين في الدنيا أو الآخرة؛ والذي يعلق الجزاء بالعمل، على أساس العدل الدقيق:
{أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون}..
وما يستوي المؤمنون والفاسقون في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا وفي الآخرة سواء. والمؤمنون مستقيمو الفطرة متجهون إلى الله، عاملون على منهاجه القويم. والفاسقون منحرفون شاردون مفسدون في الأرض لا يستقيمون على الطريق الواصل المتفق مع نهج الله للحياة، وقانونه الأصيل. فلا عجب إذن أن يختلف طريق المؤمنين والفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده وما قدمت يداه.
{أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى} التي تؤويهم وتضمهم {نزلا} ينزلون فيه ويثوون، جزاء {بما كانوا يعملون}..
{وأما الذين فسقوا فمأواهم النار}.. يصيرون إليها ويأوون. ويا سوءها من مأوى خير منه التشريد! {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} وهو مشهد فيه حركة المحاولة للفرار والدفع للنار. {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون}. فهو التقريع زيادة على الدفع والتعذيب.
ذلك مصير الفاسقين في الآخرة. وليسوا مع هذا متروكين إلى ذلك الموعد. فالله يتوعدهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة:
{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر}..
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى؛ فالله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب. فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض {لعلهم يرجعون}.. وتستيقظ فطرتهم، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب. ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذي رأيناه في مشهدهم الأليم.
فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: {إنا من المجرمين منتقمون}.. ويا هوله من تهديد. والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب!
وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين، وعواقب المؤمنين والفاسقين، ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون. ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته. جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى عليه السلام الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل؛ كما جعل القرآن كتاب محمد صلى الله عليه وسلم هدى للمؤمنين. وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة. وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين. وبياناً للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين:
{ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}..
وتفسير هذه العبارة المعترضة: {فلا تكن في مرية من لقائه} على معنى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي جاء به؛ وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه؛ والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان.. هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج. فإن اللقاء على الحق الثابت، والعقيدة الواحدة، هو الذي يستحق الذكر، والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والإعراض، ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء. وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآية: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.. للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل، وتوقن كما أيقنوا، ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل. ولتقرير طريق الإمامة والقيادة، وهو الصبر واليقين.
أما اختلاف بني إسرائيل بعد ذلك فأمرهم فيه متروك إلى الله:
{إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}..
وبعد هذه الإشارة يأخذ السياق المكذبين في جولة مع مصارع الغابرين: